الاثنين، 30 أبريل 2012

ثورة نصف متر











استنشق الزعيم بنشوة هواء الصباح البارد ، وهو يقف على مدخل مقبرة كبيرة ، امتلأت بقبور تماثلت معالمها ، والغربان يتعالى نعيقها حين تدنو ، ثم يخفت حين ترفرف في الأفق . يحيط بالمقبرة سياجٌ حديدي يقف بمحاذاته – عن يمين الزعيم وشماله - صفٌ طويل لبطانته . ابتسم الزعيم وهو يتأمل الصف الذي تسمّر في وقفته ، ويبدو من جمود حركة كروشهم البارزة أنهم لا يتنفسون أيضًا . أنصت الزعيم لصوت الطبيعة ، ثم قرر اقتحامها بصوته الهادر :
-" شعبي الحبيب " .
تعالى صوت أنينٍ جماعي مكتوم  .
 استطرد الزعيم بثقة :
-" أحيي فيكم الروح الوطنية التي أدركت حجم المؤامرة ، فمزّقت خيوطها ، وارتأت الدفاع عن حياض الوطن . "
استحال الأنين إلى هتافٍ حار لم يروي أذن الزعيم جيدًا !
فأطرق قليلًا ، ثم صاح :
-" عاش الشعب "
انطلق الهتاف الجماعي متفجرًا ، من أسفل تلك القبور ، وهو يردد بإيقاع واحد :
=" عاش الزعيم .. عاش الزعيم .. عاش الزعيم "
ابتسم الزعيم وهو يلقي نظرة فخرٍ على بطانته ، فبادلوه نظرة إجلال ، وتأملوا القبور التي أصدرت الهتاف . تعاظم الزهو داخل الزعيم ، ففقز إلى لسانه الذي نطق بأسلوب مسرحي  :
-"لأجل هذا يا أحبتي ، أصدرت أوامري بتوسيع قبر كل منكم 3 إنشات "
صاحت أصواتٌ مرحة من تحت القبور ، بينما تبادل البطانة نظرات تساؤل ، وهمس أحدهم في أذن الآخر : " هل الزيادة طولية أم أفقية ؟ " أجابه زميله " أظنها طولية ، فالأفقية سترهق الميزانية " ، قاطعهم ثالث " بل طويلة وأفقية ، فالزعيم كريم " ، قرر أجرأهم أن يستوثق بصوت مرتعش ، فرد عليه الزعيم بصرامة " لا طوليًا ولا أفقيًا ، أسمعهم فقط صوت الحفّار" .
تجاهل همسات بطانته ، واستطرد مواجهًا جمهور المقبورين :
" أعاهدكم ، أن أبذل ما بوسعي لأجل عزة  كل واحد منكم ، لا فرق عندي بين رجل أو امرأة ، طفل أو عجوز ، شريف أم حقـ .. "
قطع خطاب الزعيم نداء أشبه بأنين محتضر ، ارتج على الزعيم ، وحملق في القبور المتراصة بحثًا عن مصدر الأنين الذي قطع خطابه ، فإذا هو قبرٌ في آخر المقبرة ، ولا زال صاحبه يستغيث باسم الزعيم . اشتعل أحد أعضاء البطانة غاضبًا وقفز من مكانه ، وداس في طريقه على عدة مقابر ، ثم انحنى صارخًا بمن يئن داخل القبر  :
-"ماذا تريد ؟ ولمَ قاطعت الزعيم ..؟ تكلم .. "
أشار الزعيم للرجل أن يهدأ ، ثم ببرودٍ سأل :
=" تكلم يا بني "
سعل المقبور مرارًا ، وانبعث صوته وهو يبلع ريقه ، وبدأ الحديث بنبرة هزيلة عاجزة عن اختراق المسافة الممتلئة بالأتربة :
-" الشعب يحب الوطن " .
نهره الرجل الذي يقف على القبر :
=" كم أكره المتزلفين !! هيا قل ما لديك ! "
-" القبر "
=" ما به ؟"
-"ضيق"
احتقن الرجل الواقف ، ثم هم بالانقضاض بشراسة . أشار له الزعيم أن يتنحى ، ثم تقدم بتؤدة ،  وسأل المقبور :
-"الم تسمع بالزيادة ؟"
=" كح .. لا تكفي .. فأنا مثلًا .. طولي 180 سنتيمترًا ، والقبر طوله 100 سنتمترًا ، وهذا يعني أني متكوّم هنا كالجنين ! "
-"همم وكيف أعلم أنك صادق ؟ فأنا بحسب علمي أن كل قبر هنا لا يقل طوله عن مترين ، أليس كذلك يا أحبابي ؟ " ، والتفت متحينًا الإجابة من بقية المقابر التي أصدرت غمغمات متداخلة لم تتبين حروفها . عاد الزعيم للمقبور وقال : " أسمعت ؟ " .
أجاب الصوت المتهالك : " لا أسمع شيئًا .. هي .. أنتم ..!!  ارفعوا أصواتكم ، هل قبوركم مناسبة لأحجامكم ؟ " 
ارتفعت الهمهمات فعلًا ، لكنها - كما في السابق - مشتبكة الحروف . أطلق المقبور أنينًا يائسًا ، ثم أتبعه بصرخة مبحوحة " طالبوا بحقوقكم يا حمقى .. لم الخوف يا جبناء ؟؟" . 
جحظت عينا الزعيم ، واحمرّت أذناه عندما تلقفتا كلمة " حقوق " ! ، فوقف على القبر ، وتمهّل قليلًا وهو يستعيد أنفاسه ، ويكتم غيظه ، ثم قال من خلف أسنانه :
-"هل تعلم بحال القبور المجاورة ؟ هل تعلم أن بعضهم يعيش وعائلته في حفرة واحدة منكّسي الرؤوس ؟ ألم تقارن بينك وبينهم ؟ كل واحد منكم يتمتّع بلحد دافئ رطب ، ولَبِناتٍ مبللة بمياه نقية ، وبعضكم ينعم بعبير الكافور ليل نهار ! ماذا تريدون أكثر ؟ هل نبني لكم أكواخًا تحت الأرض ؟ "
=" نريد فقط نصف متر أفقي ومثله عمودي" علّق المقبور بصوت خافت منهك .
حملق الزعيم فيه بنظرة صارمة مثخنة بتفكير عميق ، ثم أشار لأحد بطانته بإشارة خاصة ، فهرول الرجل إليه  وهو يحمل قنينة ضخمة مملوءة بالكافور ، فأمسكها الزعيم بحرصٍ ، ثم فتحها ، وأدخل إبهامه وسبابته ، وأخرجهما ببطء شديد وقد احتوتا كمية ضئيلة من المسحوق ، ثم تردد لوهلة ، وأعاد بعضها للقنينة ، وأبقى على ما التصق بأنامله ، وقرّبه من قبر المحتج ، ونثره عليه ، فطار أكثره مع الهواء ، وتوسّد الباقي تراب القبر ، فجثا الزعيم على ركبتيه ، وربت بحنانٍ على القبر ، ثم نهض بابتسامة فخورة ونظرة ظفر ، فصفقت له البطانة ، وانتقلت العدوى للمقبرة ؛ فصاحت المقابر وصفّرت ، وانطلق أحدها بأغنية وطنية ليردد الباقون وراءه ، وعاد الزعيم لموقعه وهو يرقص على أنغامها رقصة شعبية مع بقية البطانة . .
 قطع الاحتفال صرخة المقبور : " خذ عني كافورك ، وارحل .. ارحل " .
صُعق الزعيم ! والتفت لمن حوله مذهولًا ، وارتجفت شفتاه ، وقد أوشك على الانهيار ، فرأى كل البطانة مطأطئي الرؤوس . حاول أن يعتصر حلًا ما ، فعجز ، ثم استعان بمن على يمينه ، ونطق بصوت مرتبك :
-"من الواضح أنه خائن متآمر ، وله صلاتٌ بمقابر خارجية ، لن نسكت له ، فلو سكتنا لظهر غيره .. الحل .. هممم .. الحل .. الحل ينبغي أن نتحلى بالحكمة .. لكن .. لكن لا سبيل إلا كسر شوكته !! لا .. لا .. لا ينبغي أن نهاجمه الآن أمام الجميع حتى لا يتعاطف معه أحد . انتظر .. حتى منتصف الليل ، ثم اخطفه من قبره بسرعة ، وأخرجه من هنا ، وألقي به في حفرةٍ خارج تلك المقبرة .. عُلم ؟ "
تردد الرجل كثيرًا وتحيّر ، فتنبّه له الزعيم وزمجر : " ماذا هناك ؟ "
أشار الرجل للسياج الذي يحيط بالمقبرة ، وعلى لوحة صغيرة كتب عليها :
" كل ما هو خارج المقبرة أملاكٌ للزعيم "




الثلاثاء، 6 مارس 2012

هل يؤذي أحدًا ؟






أيها المدعي ..
ما سبب اتهامك لحمزة ؟ هل ما قاله سبٌّ / حبٌ على طريقة لا تحبّها ؟ هل كان لأجل خوف/ غيرة/ انتقام ؟ هل انتقامك للرسول/ لكبريائك ؟ هل غيرتك على الدين/ مصالحك ؟ هل خوفك من العذاب/خسارة مباراة ؟ أتظنُّ حمزة هدفًا مناسبًا / طاغية يجلب العذاب ؟
أيها المحامي ..
بأي لغوي/ناقد استعنت وأنت تشرّح النصوص/الأفكار ؟ هل ترافعتَ عن كل حرفٍ مذنب/بريء ؟  ألا ترى النصوص مثل أطفالٍ تمزّقت أطرافهم ممن يتجاذبهم / مجرمون يرتدون أقنعة البراءة ؟ هل هذه النصوص تشتكي منك / تشكرك بامتنان ؟
أيها القاضي ..
هل أنت محايد/ متحيّز ؟ هل حُكمك سيرضي ضميرك/جمهورك ؟ هل احتار عقلك/تهوّر ؟ عشمي بك أنك محايد ذو ضمير حي وعقل متحيّر .. إذًا استمع لأقوال جديدة :
النصوص المتّهَمة بالسب تنتمي لإنسان ، فما رأيك أن نتجاوز السطور ، ونتعرّف على الإنسان ؟ هل تعرف حمزة ؟ ألم تر منافحته عن المظلومين ؟ أتعلم أنه دافع عن من يبيح دمه الآن ؟ دعنا من نبله ، هل قرأت باقي نصوصه ؟ أكان حمزة شيطانًا مريدًا ،أم كانت ذاته صادقةً شفافة في " غربة الذات الباحثة " ؟ هل أبدى حمزة كرهًا وحقدًا على أي إنسان - وإن كان معتديًا ؟ أم كانت مشاعره دومًا مفعمة بـ " حب متسلل " ؟ أمعقول أن يترفّع حمزة عن الشتّامين ، ثم يشتم رمزًا عفيف اللسان !
أيها القاضي .. نحّي أوراق القضية جانبًا ، واقض ليلتك في قراءة هذا الإنسان ، ثم اسأل : هل يؤذي حمزة أحدًا ؟