الثلاثاء، 28 يونيو 2011

سياحة





عقدت العزم على خوض تجربة سفر فريدة . لن تكون في بلد ذا بنية سياحية عريقة ، بلدٍ يتبجح سكانه بمتاحفه التي تنتصب فيها قصور ملوكه وقياصرته المحنطين . ولن تكون على ضفاف شواطئ تستلقي حبات رمالها جذابة ساكنة ومسترخية ، إنما وجهتي هذه المرة هي صوب قلوبٍ تشغل حيّزي . قلوب ساهمت في صنع ما أنا عليه ؛ فتواطأت على استدرار دموع الإحباط والخوف والعتاب ، بل الضحك حتى ! قلوب تنبض بالامتنان تارة ؛ فيملؤني التفاؤل والفخر . وتنشج البؤس واللوم تارة ، فأنتكس حيرة وحزناً . قلوب تفيض بالكراهية والوعيد ، فأنقلب متسائلاً ومحققاً ! أتشبِهُ زيارة عمل تفقدية يختلس أثناءها الموظف ساعات من العبث ؟ ربما .. ! أستروني سائحاً فضولياً لا يكف عن طرح الأسئلة غير الضرورية ، ولا عن إطلاق شهقات الكاميرا المستريحة بين كفيه ؟ لا مانع !
تستلزم مني هذه الرحلة أن أعيش ابتداء ككاهن "تبت" يتربع على أحد جبال الهيمالايا ، ومستغرقٌ في تأمل يخلّصه من جسده ، كي يحلّق بأرجاء المعمورة . لكن رحلتي هذه ستكون مختلفة .فسأحل ضيفاً على دواخل من أعرفهم ؛ قلوبهم . سأجوب عوالمهم العاطفية التي تسيّرني . وسأتحقق مما تحمله قلوبهم لي من بضائع ، وما وعدتني به من هدايا . سأتفقد مقدار ما اختلسته من تلك القلوب .. سأقر بما أحدثه ثقل خطاي عليها يوماً ، وما جنته تهوّر قراراتي !



في أي رحلة سياحية تتألف من زيارة لأكثر من بلد ، نبدأ عادة بالدول التي تشتهر بالاستقبال الفرح للسياح ؛ وذلك لأجل أن نجني انطباعاً يشجع على استكمال رحلتنا إلى باقي الدول . لذا ، آثرت أن استعين على إنجاح رحلتي بزيارة مطوّلة لقلب " الأم " . حلّقت عالياً متأملاً هذا القلب ، كان قلباً أبيض .. شاسع .. منبسط .. مصقولٌ .. لا نتوءات أو تضاريس ؛ يخيّل إلي أن الطريقة المناسبة لأن تتنقّل فيه ، هو أن ترتمي على بطنك ، وتدع مرونة سطحه تحملك - متزحلقاً - إلى ما تريد . عندما هبطت ، كانت - لحماستي - تلك طريقة تنقّل البشر هناك بالفعل ، بشر ؟ لم تكن هذه الرحلة الروحيّة لتفصح عن ماهيّة سكان ذلك القلب ، كل ما أعرفه هو أن لهم تكوينٌ يشبهني كثيراً . لم أتفاجأ بحجم الترحاب الذي لقيته وسط ذلك القلب ، وإنما تفاجأت بالدموع التي تملأ نصف محاجر السكان هناك ، على الرغم من الابتسامة التي حفرت طريقها بأناقة من الأذن للأذن . كان هذا المزيج من الحزن المرتسم على النصف العلوي،والسعادة التي تنضح في النصف السفلي ، يضفي علي مشاعر ذات معنى واحد فقط : تأنيب الضمير .
أن تتطلّع إلى وجوهٍ تشعرك بأنك مذنب من أعلى رأسك إلى أخمص قدميك ، لهو أمرٌ عسير ! تحاول بيأس أن تختلق مبررات وأسباب ، لكنها تموت قبل أن تجد طريقاً خارج عتبة حنجرتك .. تلك الطاقة التي تجمع مابين العتاب الحزين والترحيب السعيد ، والتي تومض من تلك القسمات ، لا قبل لطاقتي "التبريرية" بها . كما أصبح واضحاً ، فإن ترجمة تلك الدموع ، هي الحزن والعتاب على ما اقترفته أنا بحق هذا القلب من طول الهجر ، وأن الابتسامة هي ابتهاج بزيارة غير متوقعة !
تجوّلت في ذلك القلب كملك غير متوّج ؛ فهم يحفّوني من كل الجهات ؛ وكأن هناك خطراً محدقاً بي . سألت أحدهم إن كان ذلك ضرورياً في مثل هذا المكان الآمن ، فأجابني بالنفي ، بل بشّرني بأن كل واحد هنا قد جُبلَ على محبتي ، وعلى أن يفديني بكل ما يملك ، فقط هم يريدون منّي أن أبقى قريباً على الدوام ، لأن الهجر يسبب لهم ألماً وجدباً يودي بهذا القلب ومن فيه ؛ فحياتهم من حياتي ، ونجاتهم بقربي ! لكن هذه الحماية هي لأجل ما قد يصدف من اعتداءات خارجية عليّ .. لذا ، فهم حريصون على أن أبقى آمناً مطمئناً سعيداً ، وبأي ثمن . 
اضطررت أن أكمل رحلتي للقلبين المتبقيين في اللائحة ، فودعتني أنهار من الدموع ، وكأنهم يقبرون ميتاً ! وعدتهم صادقاً بزيارات قريبة ومتكررة . فإني الآن - بعد أن عشت جمال هذا القلب -لا أملك أي عذرٍ للهجر ، فأنا هناك مكفولٌ محبوبٌ ومحمي ! أي دولة توفّر هذا النعيم للزوار ؟ لكن يجب علي أن أغادر كي أكمل مهمتي الاستكشافية .


بما أني افتتحت برنامجي بزيارة قلبٍ ليّنٍ عطوف ، فينبغي أن استغل طاقتي في بداية الرحلة لأبدأ مغامرة خطيرة ، وهي زيارة قلب " العدو " . ما الغرض منها ؟ هل هو انتقام ما ؟ أم تشفّي ؟ أم مفاوضات سلام ؟ أم مصالحة ؟ لا أدري حقيقة ! أنا هنا مكتشف فحسب .. وفي هذا القلب الذي أتوقع منه ردة فعلٍ معينة ، أنا مغامر .لم اهبط إليه بالطريقة المعتادة ، ولم أتوجه لبوابته الرئيسية ، فالسذاجة لا مكان لها الآن ، بل دلفت القلب المحمرّ خلسة ، ومن مدخل مهجور . شعورٌ كريه أن تمشي على أرض حمراء لزجة تشعر أنها تشتمك .. تبصق عليك . أرض مغتاظة منك .. وتتحيّن الفرصة كي تنشق وتبتلعك .. لا بأس .. إنه ليس وطني ، إنما هو قلب معادي ! والأفضل أن أتصرف بعفوية لعلي أجد عاقلاً أستطيع الحوار معه لأتعّرف على هذا القلب ، وأبحث معه سبل تذليل الحواجز التي بيننا . هل هذا أحدهم ؟ لا أظن .. فالشرر يتطاير من عينيه ، وهناك حروف تحوم حول رأسه تحمل عبارات الشر لي ! ليس حول رأسه فقط .. إنها تتبخر من الأرض أيضاً .. ومطرزة باسمي ! ليس هذا فحسب .. هناك دموع لعجبي ! دموع غيظ .. وقهر .. وكثيرٍ من لومٍ وشكوى ! .. 
  - مستغرب ؟ التفتُّ لأجده خلفي ، وقد أولاني ظهره بعد أن ألقى السؤال ..
= جداً .. كيف يعيش قلبٌ بمثل هذا الحقد ؟
- كما تعيش .
= ماذا تعني ؟
 - إنك مثله تماماً .
= أنا ابتسم .. وأضحك .. ومشغول بمهامٍ أخرى .. بينما هذا القلب لا يحمل إلا الشر لي ..و
- هذا ما تراه أنت ، لم توجّهت لهذا القلب بالذات ؟ أليس لأنه يصنّفُ من ضمن قائمة أعدائك ..؟ لقد وجدتَ ما كنت تتوقعه : الشر .. وصاحب هذا القلب لو سُمح له بزيارة لقلبك .. فإنه سيجدُ ما وجدته أنت .
= أتمنى لو كان لديَّ وقتاً كي أبحث وإياك هذه الفلسفة .. لكني أتمنى أكثر ، أن أجد حلاً ..
- عد من حيث أتيت ، ثم توجّه بخطى ثابتة واثقة نحو بوابة القلب الرئيسية .
وهكذا ، أراني أسير متردداً ، نحو البوابة الرئيسية ، اقترب رويداً من صفٍ غاضب حانق وقف في انتظاري . لم أعبأ بردة الفعل السلبية هذه ، فقط اقتربت ..حتى بت أتعرّف على تلك القسمات ، وأشعر بها تنفث مشاعرها الحقيقة عالياً .. لم تكن لعجبي عدائية كما رأيتها من قبل ، بل لا يوجد عدائية تقريباً ! إنها سحابة محملة باللوم والقهر والعتاب .. ! تأملتها طويلاً .. واستشعرت كميّة الصدق فيها .. صدق تلك المشاعر أعني .. نعم .. هم غاضبون لسبب ما .. ليسوا شراً محضاً كما تصورتهم . ولوهلة ، انتابتني نفس المشاعر في قلبي تجاههم ، نعم .. لم أحمل في قلبي شراً كاملاً تجاه هذا القلب .. بل كان مجرّد غضب .. حالة استثنائية .. عقبة تعثرنا بها معاً ، وجرحنا بسببها معاً ، ثم " تلاومنا " . وهكذا ، حتى تصور كلٌ منا الآخر عدواً . ولذا أسميته قبل زيارتي : القلب " العدو " . ودّعته مستبشراً على أمل إيجاد حلٍّ يعيد هذا القلب لوضعه الطبيعي ، لن أحيله لقلب أمٍ مثلاً ! لكن أتمنى رؤيته قلباً أخضر مسالماً .. وهذا لن يتأتّى إلا بعد أن أعيد النظر في تصنيفي لهذا القلب ، بداية من تعديل مفردة " العدو " إلى " السلمي " .


لن يخرجني من الأجواء المعكرة هذه إلا زيارة خاطفة لقلبٍ مألوف محبوب ، أظنها ستصبح أشبه برحلة استجمام بعد طول عناء ، يمتلك هذا القلب شيئاً من خصائص قلب الأم الحنون المضحّي - وإن لم يكن بنفس الجودة عادة . إلا أنه يختلف عنها بامتلاكه جانباً حازماً من العهود والمواثيق الملزمة ، بالإضافة إلى تميزه بالحميمية الخاصة جداً ، والتي لا تأخذ دورها إلا سراً تحت جنح الظلام ؛ بيني وبين هذا القلب فقط . قلب " الحبيب " هو آخر القلوب التي سأتعرف عليها في رحلتي الاستكشافية .
كانت الرسائل تتطاير في انتظار خطوتي "الميمونة" ؛ وهذا ما يميّز هذا القلب ، وهو اشتهاؤه لزيارتي إلى درجة أشعر معها أني أحد المخلّصين المقدَّسين ، وكذا الحال بالنسبة لي ، فأنا أهوي إليه ، وألبي نداؤه كحاجٍّ ضامر على بعد خطوات من المشاعر المقدسة .. ! تلك كانت الصورة المنتظَرة قبل ولوج البوابة ، ماذا بعدها ؟ مُتعٌ فقط .. فقط .. ! كان تناولنا للطعام متعة .. كان الحديث متعة ..التحقيق معي "أين كنت" متعة أيضاً .. كانت المشاكل ممتعة ، والغيرة ممتعة .. هناك دموعٌ أيضاً .. هناك غضب .. هناك تعصّب .. هناك تهديد وابتزاز حتى .. لكن كل هذا " متعة " لا تضاهيها متعة .
كانت أسطري السابقة ستؤول للتناقض قبل رحلتي هذه ، فقد كنت أحمل قائمة أسميتها " أمراض الحب " ، ورتبتها بحسب خطورتها كالتالي : الغيرة - افتقاد لغة حوار - الاختلافات الحادة في وجهات النظر . ابتدأت بالغيرة لأني كنت أراها مرضاً عضالاً يقيّد الشريك ، ويسلبه أعز ما يملك ؛ وهي حريته ، فإن غابت الحرية ، فسينتج لنا نفاقاً أو ثورة ، وكلاهما هو فضٌّ للعلاقة . ثم عرّجت على لغة الحوار، لأني أراها أساس العلاقة ، وهي الجسر الذي سيقود مسيرتنا لنهاية واضحة ، فإن سقط ، سنضطر للوقوف .. ومن ثم التقهقر لأننا لن نقف للأبد ! ثم ختمتها بالاختلافات الحادة وتأثيرها ، وأنها أشبه بالاصطدامات ، التي تنتج جروحاً وفتناً تنهش في العلاقة تدريجياً إلى أن تقتلها . فكيف تصبح كل هذه الأمراض متعاً ؟
بعد عودتي من زيارتي الأخيرة ، صرت أضحك طويلاً كلما تصفحت دفتر ملاحظاتي وقرأت من قائمة " أمراض الحب " ؛ لأني أضحيت ممن رأى لا ممن سمع ؛ رأيت الحب حقيقة في ذلك القلب ، جلست معه ، وعشت مع طاقته الروحية الخارقة .. اختبرتها .. طاقة هائلة تنسف كل طاقة روحية أخرى .. طاقة هدفها واحد : المتعة . تصارعَ الكثير مع هذه الطاقة في معركة خاسرة ، سقطوا .. ليس صرعى ، وإنما عبيداً .. وليسوا عبيداً مبغضين لسادتهم ويتحينون العتق ، وإنما عبيد يرجون مزيد عبودية . إنها سحرٌ يربط بين العشاق .. ويصيّرهم ملائكة تتعبد بلا كلل ..! هذه الطاقة الحقيقة للحب إن وجدت ، فاعلم أن كل ما يعرض في طريقها بعد ذلك هو متشرب بهذه الطاقة الممتعة . إن تجوّلت في قلب الحبيب ، وعلمت أي تضحية قد يقدمها لك ، إن رأيت استعداده لإخضاع كل ما يعز عليه تحت حُكمِ الحب ، ستعلم حينها أي معجزة هي بين يديك . هذه المعجزة هي الإكسير الذي يُضَخ في عروق العلاقة ، حتى تغدو منيعة خالدة .

يقال إن السفر سمي سفراً لأنه يسفر عن أخلاق المسافرين ، ويهتك ستر المجاملة والمثالية المحمية بدفء المنزل .. أم السفر هنا فقد أسفر لي عن قلوب أهتم لها .. قلوبٌ أوشكت على الهلاك بأسباب جهلي وعدم مبالاتي . قلوبٌ رسمتها بأبشع منظر ، وشوهتها بسوء ظني . قلوبٌ أشقيتها مسبقاً بنصب العقبات والحواجز ، وحقنتها بأنواع الأمراض . 

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More