الاثنين، 2 سبتمبر 2013

شفقة ذات - قصة فصيرة





" أكتب الآن في نفس الوقت الذي أعلنتَ فيه الفراق ، بالضبط بعدما توقف آخر شهيق من نشيجي الذي استمر طوال الليل . أعلنتُ تمردي على كل شيء .. حتى على حياتي .. أعددت لنفسي موتة هادئة ؛ أحضرتُ حبلاً من فناء منزلنا . أهلي نائمون الآن ، سينتهي كل شيء بلا أدنى ضجيج ، ربما في الصباح سيختلف الوضع ، لكن المهم هو الآن ، أن أتغلب على الضجيج الذي في داخلي ، والذي سيقودني للجنون ..


أفضل الموت على الجنون .. المجنون سيظل يحمل قلباً يتألم ، وجسداً يُجرَح ، ربما لا عقل له ، لكن يبقى إنسان من لحم ودم وروح .. هذه الروح هي ما تؤلمني يا حبيبي ..


حبيبي .. ! استميحك العذر في كسر القاعدة التي اتفقنا عليها : الفراق ، وإيقاف هذا العبث .. ومن العبث - كما تقول - أن أناديك حبيبي .. بالطبع أنت من أسماه عبث ، لأنك قد قررت فجأة ، أن "تتغير" .. وتصبح إنساناً آخر لم يعد يرغب بالمزيد ..

المؤلمُ أني كنت معك أمة مطيعة دائماً .. كنت أمة لأني سُلبتُ حقي في قول "لا" يوم اقتحمت أسواري .. كنت أغلق الأبواب بصعوبة .. بصعوبة لأني منهكة من الزمن .. مريضة من سموم المجتمع . كنت أسألك الرحيل باستمرار .. كنت أعلنها أكثر من مرة بأني إنسانة " غير " ، ولا أرغب بالمزيد .. كما فعلتَ معي ، لكن لم تستمع لي . لم أكن اطلب منك الانتحار كما سأصنع الآن . فقط رجوتك أن تبتعد عني ..

تجاوزتَ خطي الأحمر القديم .. خط كنت أفخر به ، وأقدمه عند كل معارفي كطفلي الذكي . لقد شُلَ صغيري الآن .. شللاً كاملاً .. لم أعد أتواصل وإياه إلا بالدموع .. فهي وحدها تخبرني بجوعه وعطشه وحاجاته .. ولومه !

لم أعد أفيد طفلي بشيء الآن ، وأنا أمتُك .. أرى بعين الخيال وجهك وهو ينقبض من هذا الوصف .. لكن هو كما قلتَ لك حرفياً : كنتُ أمتُك ؛ لم أحسن التعامل مع قلبي .. فأهديته لك بدون أية ضمانات .. قطعتُ على قلبي كل خطوط الرجعة .. ولم أنتظر منك إعادته .. لأني وثقت بحسن تعاطيك معه . قد قلت في نفسي مرة " فيم أريده ؟ الجسد واحد - على غرار الجيب واحد هه " .. لم يخطر لي على بالٍ أن هذا الميثاق قد يسقط .. وينتهي تاريخه في لحظة يحددها " مزاجك " ..

انتهى تاريخ الميثاق ، ودستَ على قلبي عند أشد أوقاتنا حساسية .. أتذكر تقاسيم وجهك التي انقلبت رأساً على عقب ؛ انعقاد حاجبيك ، زم شفتيك ، ضيق عينيك .. كل هذا بعدما دككت آخر حصوني التي ظننتها يوماً منيعة .. نهضتَ من عندي حبيباً آخر تماماً ؛ جاف ، بارد ، وقاس كالصخر .. أصلحتَ من هندامك دون أن تسمح لي بالمساعدة .. ثم أوليتني ظهرك ، كما أوليتني قسوتك .. حملتَ "عقالك" بيديك الاثنتين ، ونصبته على رأسك باعتداد ، كما ناصبتَ مشاعري العداء !

ألقيتَ علي نظرة أخيرة .. فرأيتني وأنا في أضعف أحوالي .. ملتحفة بالكامل بالغطاء .. ما عدا عيناي .. عيناي اللتان تسقيان الغطاء بدموع لم تثر في نفسك أي شفقة .. فأكملت طريقك .. وخرجت دون تحية حتى .. لم تحضر انهياري وقتها .. لم تسمع صرختي الطويلة التي آذت أحبالي الصوتية .. لم تر الدماء التي لطخت جبهتي بسبب تهوري وضرب رأسي بالمرآة الكبيرة بغرفتي ..

تجاهلتني تماماً .. وهذا يؤذيني كما تعلم .. روحي تتآكل ؛ والسبب هو بعد قلبي عني .. وقلبي ملكك .. لا أستطيع استرداده !

أرأيت ؟ لم يكن قرار الانتحار أحمقاً كمثل قرارات البعض .. لن انتحر بسبب خسارة مادية .. فالمال يستمتع به الجسد فحسب .. والجسد سيعمل ليعيد أضعاف ما خسره .. ولن انتحر بسبب فضيحة أخلاقية ؛ فالنسيان كفيل بذاكرة الإنسان . إنما أنا أفعلها بسبب خسارة لا تعوَض : قلبي .. لا قلب لدي كما لدى كل الناس .. لا روح .. لا جسد .. فلم البقاء ؟
أكتب هذا النداء الأخير .. كي تنقذني .. كي تسعفني بقلبي .. كي تعود إلي . "


* إلى : حبيبي
* تم الإرسال
*تم تسليم الرسالة

نقرت أصابعها على الطاولة ، مرت دقائق عدة ... لا رد .
تناولت الهاتف مرة أخرى ، وتوجهت للرسالة :
إعادة إرسال ..
ثم وضعت رقماً آخر .

الاثنين، 30 أبريل 2012

ثورة نصف متر











استنشق الزعيم بنشوة هواء الصباح البارد ، وهو يقف على مدخل مقبرة كبيرة ، امتلأت بقبور تماثلت معالمها ، والغربان يتعالى نعيقها حين تدنو ، ثم يخفت حين ترفرف في الأفق . يحيط بالمقبرة سياجٌ حديدي يقف بمحاذاته – عن يمين الزعيم وشماله - صفٌ طويل لبطانته . ابتسم الزعيم وهو يتأمل الصف الذي تسمّر في وقفته ، ويبدو من جمود حركة كروشهم البارزة أنهم لا يتنفسون أيضًا . أنصت الزعيم لصوت الطبيعة ، ثم قرر اقتحامها بصوته الهادر :
-" شعبي الحبيب " .
تعالى صوت أنينٍ جماعي مكتوم  .
 استطرد الزعيم بثقة :
-" أحيي فيكم الروح الوطنية التي أدركت حجم المؤامرة ، فمزّقت خيوطها ، وارتأت الدفاع عن حياض الوطن . "
استحال الأنين إلى هتافٍ حار لم يروي أذن الزعيم جيدًا !
فأطرق قليلًا ، ثم صاح :
-" عاش الشعب "
انطلق الهتاف الجماعي متفجرًا ، من أسفل تلك القبور ، وهو يردد بإيقاع واحد :
=" عاش الزعيم .. عاش الزعيم .. عاش الزعيم "
ابتسم الزعيم وهو يلقي نظرة فخرٍ على بطانته ، فبادلوه نظرة إجلال ، وتأملوا القبور التي أصدرت الهتاف . تعاظم الزهو داخل الزعيم ، ففقز إلى لسانه الذي نطق بأسلوب مسرحي  :
-"لأجل هذا يا أحبتي ، أصدرت أوامري بتوسيع قبر كل منكم 3 إنشات "
صاحت أصواتٌ مرحة من تحت القبور ، بينما تبادل البطانة نظرات تساؤل ، وهمس أحدهم في أذن الآخر : " هل الزيادة طولية أم أفقية ؟ " أجابه زميله " أظنها طولية ، فالأفقية سترهق الميزانية " ، قاطعهم ثالث " بل طويلة وأفقية ، فالزعيم كريم " ، قرر أجرأهم أن يستوثق بصوت مرتعش ، فرد عليه الزعيم بصرامة " لا طوليًا ولا أفقيًا ، أسمعهم فقط صوت الحفّار" .
تجاهل همسات بطانته ، واستطرد مواجهًا جمهور المقبورين :
" أعاهدكم ، أن أبذل ما بوسعي لأجل عزة  كل واحد منكم ، لا فرق عندي بين رجل أو امرأة ، طفل أو عجوز ، شريف أم حقـ .. "
قطع خطاب الزعيم نداء أشبه بأنين محتضر ، ارتج على الزعيم ، وحملق في القبور المتراصة بحثًا عن مصدر الأنين الذي قطع خطابه ، فإذا هو قبرٌ في آخر المقبرة ، ولا زال صاحبه يستغيث باسم الزعيم . اشتعل أحد أعضاء البطانة غاضبًا وقفز من مكانه ، وداس في طريقه على عدة مقابر ، ثم انحنى صارخًا بمن يئن داخل القبر  :
-"ماذا تريد ؟ ولمَ قاطعت الزعيم ..؟ تكلم .. "
أشار الزعيم للرجل أن يهدأ ، ثم ببرودٍ سأل :
=" تكلم يا بني "
سعل المقبور مرارًا ، وانبعث صوته وهو يبلع ريقه ، وبدأ الحديث بنبرة هزيلة عاجزة عن اختراق المسافة الممتلئة بالأتربة :
-" الشعب يحب الوطن " .
نهره الرجل الذي يقف على القبر :
=" كم أكره المتزلفين !! هيا قل ما لديك ! "
-" القبر "
=" ما به ؟"
-"ضيق"
احتقن الرجل الواقف ، ثم هم بالانقضاض بشراسة . أشار له الزعيم أن يتنحى ، ثم تقدم بتؤدة ،  وسأل المقبور :
-"الم تسمع بالزيادة ؟"
=" كح .. لا تكفي .. فأنا مثلًا .. طولي 180 سنتيمترًا ، والقبر طوله 100 سنتمترًا ، وهذا يعني أني متكوّم هنا كالجنين ! "
-"همم وكيف أعلم أنك صادق ؟ فأنا بحسب علمي أن كل قبر هنا لا يقل طوله عن مترين ، أليس كذلك يا أحبابي ؟ " ، والتفت متحينًا الإجابة من بقية المقابر التي أصدرت غمغمات متداخلة لم تتبين حروفها . عاد الزعيم للمقبور وقال : " أسمعت ؟ " .
أجاب الصوت المتهالك : " لا أسمع شيئًا .. هي .. أنتم ..!!  ارفعوا أصواتكم ، هل قبوركم مناسبة لأحجامكم ؟ " 
ارتفعت الهمهمات فعلًا ، لكنها - كما في السابق - مشتبكة الحروف . أطلق المقبور أنينًا يائسًا ، ثم أتبعه بصرخة مبحوحة " طالبوا بحقوقكم يا حمقى .. لم الخوف يا جبناء ؟؟" . 
جحظت عينا الزعيم ، واحمرّت أذناه عندما تلقفتا كلمة " حقوق " ! ، فوقف على القبر ، وتمهّل قليلًا وهو يستعيد أنفاسه ، ويكتم غيظه ، ثم قال من خلف أسنانه :
-"هل تعلم بحال القبور المجاورة ؟ هل تعلم أن بعضهم يعيش وعائلته في حفرة واحدة منكّسي الرؤوس ؟ ألم تقارن بينك وبينهم ؟ كل واحد منكم يتمتّع بلحد دافئ رطب ، ولَبِناتٍ مبللة بمياه نقية ، وبعضكم ينعم بعبير الكافور ليل نهار ! ماذا تريدون أكثر ؟ هل نبني لكم أكواخًا تحت الأرض ؟ "
=" نريد فقط نصف متر أفقي ومثله عمودي" علّق المقبور بصوت خافت منهك .
حملق الزعيم فيه بنظرة صارمة مثخنة بتفكير عميق ، ثم أشار لأحد بطانته بإشارة خاصة ، فهرول الرجل إليه  وهو يحمل قنينة ضخمة مملوءة بالكافور ، فأمسكها الزعيم بحرصٍ ، ثم فتحها ، وأدخل إبهامه وسبابته ، وأخرجهما ببطء شديد وقد احتوتا كمية ضئيلة من المسحوق ، ثم تردد لوهلة ، وأعاد بعضها للقنينة ، وأبقى على ما التصق بأنامله ، وقرّبه من قبر المحتج ، ونثره عليه ، فطار أكثره مع الهواء ، وتوسّد الباقي تراب القبر ، فجثا الزعيم على ركبتيه ، وربت بحنانٍ على القبر ، ثم نهض بابتسامة فخورة ونظرة ظفر ، فصفقت له البطانة ، وانتقلت العدوى للمقبرة ؛ فصاحت المقابر وصفّرت ، وانطلق أحدها بأغنية وطنية ليردد الباقون وراءه ، وعاد الزعيم لموقعه وهو يرقص على أنغامها رقصة شعبية مع بقية البطانة . .
 قطع الاحتفال صرخة المقبور : " خذ عني كافورك ، وارحل .. ارحل " .
صُعق الزعيم ! والتفت لمن حوله مذهولًا ، وارتجفت شفتاه ، وقد أوشك على الانهيار ، فرأى كل البطانة مطأطئي الرؤوس . حاول أن يعتصر حلًا ما ، فعجز ، ثم استعان بمن على يمينه ، ونطق بصوت مرتبك :
-"من الواضح أنه خائن متآمر ، وله صلاتٌ بمقابر خارجية ، لن نسكت له ، فلو سكتنا لظهر غيره .. الحل .. هممم .. الحل .. الحل ينبغي أن نتحلى بالحكمة .. لكن .. لكن لا سبيل إلا كسر شوكته !! لا .. لا .. لا ينبغي أن نهاجمه الآن أمام الجميع حتى لا يتعاطف معه أحد . انتظر .. حتى منتصف الليل ، ثم اخطفه من قبره بسرعة ، وأخرجه من هنا ، وألقي به في حفرةٍ خارج تلك المقبرة .. عُلم ؟ "
تردد الرجل كثيرًا وتحيّر ، فتنبّه له الزعيم وزمجر : " ماذا هناك ؟ "
أشار الرجل للسياج الذي يحيط بالمقبرة ، وعلى لوحة صغيرة كتب عليها :
" كل ما هو خارج المقبرة أملاكٌ للزعيم "




الثلاثاء، 6 مارس 2012

هل يؤذي أحدًا ؟






أيها المدعي ..
ما سبب اتهامك لحمزة ؟ هل ما قاله سبٌّ / حبٌ على طريقة لا تحبّها ؟ هل كان لأجل خوف/ غيرة/ انتقام ؟ هل انتقامك للرسول/ لكبريائك ؟ هل غيرتك على الدين/ مصالحك ؟ هل خوفك من العذاب/خسارة مباراة ؟ أتظنُّ حمزة هدفًا مناسبًا / طاغية يجلب العذاب ؟
أيها المحامي ..
بأي لغوي/ناقد استعنت وأنت تشرّح النصوص/الأفكار ؟ هل ترافعتَ عن كل حرفٍ مذنب/بريء ؟  ألا ترى النصوص مثل أطفالٍ تمزّقت أطرافهم ممن يتجاذبهم / مجرمون يرتدون أقنعة البراءة ؟ هل هذه النصوص تشتكي منك / تشكرك بامتنان ؟
أيها القاضي ..
هل أنت محايد/ متحيّز ؟ هل حُكمك سيرضي ضميرك/جمهورك ؟ هل احتار عقلك/تهوّر ؟ عشمي بك أنك محايد ذو ضمير حي وعقل متحيّر .. إذًا استمع لأقوال جديدة :
النصوص المتّهَمة بالسب تنتمي لإنسان ، فما رأيك أن نتجاوز السطور ، ونتعرّف على الإنسان ؟ هل تعرف حمزة ؟ ألم تر منافحته عن المظلومين ؟ أتعلم أنه دافع عن من يبيح دمه الآن ؟ دعنا من نبله ، هل قرأت باقي نصوصه ؟ أكان حمزة شيطانًا مريدًا ،أم كانت ذاته صادقةً شفافة في " غربة الذات الباحثة " ؟ هل أبدى حمزة كرهًا وحقدًا على أي إنسان - وإن كان معتديًا ؟ أم كانت مشاعره دومًا مفعمة بـ " حب متسلل " ؟ أمعقول أن يترفّع حمزة عن الشتّامين ، ثم يشتم رمزًا عفيف اللسان !
أيها القاضي .. نحّي أوراق القضية جانبًا ، واقض ليلتك في قراءة هذا الإنسان ، ثم اسأل : هل يؤذي حمزة أحدًا ؟




الخميس، 22 ديسمبر 2011

مشروع سفر










لا أدري كم من الوقت واقفةً هنا !
حقًا لا أدري ..
لم أسمع بالمكان الذي سأذهب إليه .. ولم يستشرني أحد !
لو فعلوا لاخترت غيره ..
دسَّوا تذكرة السفر بين أصابعي ، ومُنّيت بسفرة ممتعة ! تراصَّت حروف وأرقام على هذه التذكرة تبشّرني بأن مقعدي يحتل الدرجة الأولى .. لمَ استحق هذه الدرجة ؟ قيل أن الطعام فيها ساخن شهي ، وأن القهوة ستطوف علي بين حينٍ وآخر . من قال لهم أني جائعة ؟ من تنبأ جزافًا بحبي للقهوة ؟ ربما لا أحب الدرجة الأولى .. ربما أكره هذا القطار وتلك الوجهة !
ماذا ينتظرني هناك ؟ زحام ؟ زنق ؟ شتائم ، وشعر يقطر عرقاً ؟ كل ذلك متوقّع ؛ فهو مكان غريب لم أقرأه يوماً ، لم أمشي على أرضه ، ولم آلفه . والمكان يراني غريبة ، لم يقرأني ، لم يحتضنني يومًا ، ولم يألفني . ستحدق بي الأرض ببرود ، سترمقني السماء بجمود . سيستقبلني البشر والحيوانات بترحاب ، ثم سيتحاشوني عندما يكتشفوا فيَّ مالم يتوقعوه . لن أضحك هناك ، سألزم غرفتي متظاهرة بإنجاز شيء ما. حذّرتهم من مغبة إرسالي هناك على متن هذا القطار بعينه . لم يفهموا ولن يفعلوا .
عرضوا علي صورًا للمكان فاتنة ، لكنها مصمتة .. تأملتها ، وأدركت مقدار التلاعب بتلك الصور لجعلها تبدو أكثر جمالًا .. هذا ليس كافيًا ! جمال الطبيعة وحده لا يأخذ بلبي .. رغد العيش لا يشبعني .. كل تلك الشكليات لا تكفي مثلي لأن يطيب لها المقام .كنت أسرف بالشرح ، وكانوا يسرفون بالتجاهل ! . يتجاهلوني لأنهم لا يريدون أن ينهروني كما فعلوا سابقًا ؛ فهذه لحظة حاسمة تحتاج مني لأن أكون هادئة ، فإنِ انهارت أعصابي فهذا يعني فشل مشروع السفر . كم أتمنى لو يصرخوا بي لأجل أن تتفجر تلك الدمعة الناضحة بصدري ..
أفزعني صراخ القطار الصلف ، فانتزعني من كرسيي لأقف بآليّة . إنه الرحيل إذن ! كم أكره هذا القطار القديم الذي تعاهدته الأتربة ! كم أخت لي وصديقة ركبته . منهن من عادت من الرحلة محطّمة وتلعن التجربة مرارًا ، ومنهن من بقيت هناك ، فانكسر الشباب في عينيها ، وجفت منها منابع البسمة ، وأصيبت بداء العجز عن الافصاح ؛ فاكتفت بترديد عبارات الشكر على كل حال  .كم هو طويل هذا القطار ، ومثير للتوتر . لم وجوه الركاب مملة هكذا ..؟ لم ينظرون للأمام دائمًا ولا شيء سوا رؤوس الركاب !؟ بعضهم يبدل ناظريه بتثاقل ليلحظني بنظرة ترسلُ الكآبة . ماذا تريد مني ؟ أن ألحق بالقطار ؟ إنه لا ينتظرني يا أبله ! سيرحل في وقته المحدد . أنا أملك نفسي الآن ، وأنا من يقرر الرحيل !
هل حقًا أنا من يقرر ؟ لم إذن تأنقتُ بأجمل ما اشتريت ؟ لم جلست على هذا الكرسي ، حاملة تذكرة الدرجة الاولى ؟ لم وقفت لنفير القطار ؟ .. فهمت الآن ؛ أنا مُجبرة على السفر ، هذه الملابس النفيسة الناعمة هي سلاسل باردة توثق ساقي برقبتي الذابلة .. هذه التذكرة قيد محكم ..  انظر كيف جمعت كفَّاي على ركبتي ، وجعلت الإبهامين في مواجهة بعضهما !
لا أكره السفر ولا القطارات . أنا فقط أحب اختيار قطاراتي وأماكني بنفسي . كم أحببت ذلك المكان البسيط المفعم بروائح لم أملها ، سنوات وقلبي يحلّق فيه فرحًا ، وروحي تتواثب فخرًا ، إلى أن افتُتح هذا المشروع فأربك تسلسل السعادة لدي وأفسدها ! كم أتمنى أن أُحمَلَ إليه الآن ولو بعد فوات الأوان .. لا أريد درجة أولى ولا طعام أثناء السفر .. لا أريد أن أصل بسرعة . راضية .. راضية بمشاق الرحلة .. أتعلمون ؟؟ لا أريد قطارًا حتى .. فقط اسمحوا لي بتمزيق الورقة ، ورميها أمام ناظر موظف القطار الذي يتململ وهو يربّت على كرشه .. أريد أن أزيح المعطف الثقيل عن كتفي ، وأدعه يستلقي بغروره بجانب التذكرة الممزقة .. اسمحوا لي بالركض إليه عكس اتجاه القطار .. أراهن أني سأنال مرادي الذي أحب قبل أن يتحرك بمسافريه.

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More