الاثنين، 3 أكتوبر 2011

كأي ذكرى







مضى تقريباً 8 أو تسع سنوات على تخرجي من الثانوية العامة ، ومن بعدها بدأت رحلة التنقل بين مدن المملكة وخارجها .. لم يكن للإجازات الصيفية نصيب مني .. فقد كنت أنفقها في الفصول الصيفية .. والدورات .. الخ
الإجازات القصيرة بالنسبة لي هي فرصة لإعادة الوصل مع جيراني القدماء في مدينتي .. وفي حيها القديم .. جيران الطفولة والمراهقة الأولى . وليس الوصل الذي أعنيه هو طرق الأبواب والسلام وتناول القهوة والسؤال عن الحال .. لا .. إنما هو بالنسبة لي عبارة عن تلويحة سريعة بيميني وأنا عابر بسيارتي - أو متجولاً على قدمي - لم أكن انتظر من جميعهم رداً للسلام أو حتى تذكري ومعرفة من أنا .. صحيح أن بعضاً منهم كان يسأل عني عند أبي ، ويتساءل عن سبب عدم رؤيتي في المسجد بعد آخر يوم من الثانوية ! وصحيح أن أحدهم كان يعاملني بتبجيل ، فيلزم أبي بإحضاري معه في المناسبات الرسمية وحتى جلسات قهوة المغرب .. لكن هم الآن في حال مختلفة ..
كنت أفكر بهذا وأنا أتمشى بالأمس في إحدى الأحياء القديمة التي تعبق بالذكريات .. ذكرى اللعب والجري وأكياس المصاقيل وحديث عن أنواع السياكل .. هذا المكان كانت تحتله بعض البيوت الطينية التي كنا نتخذ جدرانها مرمى يستقبل ركلاتنا التي نظنها " صاروخية " وهي في حقيقتها " بوز " .. استبدلت الآن بمنازل حديثة الطراز .. ومصمتة .
أقول إن هؤلاء الآباء قد انقلب حال بعضهم وتبدل .. فقد تحلّى الزمن بالمنة والكرم .. فأهدى أحدهم عكازاً .. ولآخر كرسياً .. ولأحدهم (... ) كي يقضي حاجته .. كل هذا مؤلم ، وقد يكون بغيضاً غير مفهوم بالنسبة لي .. المهم أنه يمنحهم العذر في عدم معرفتي ..
هذا السلام كنت أحظى بأجمل منه ، والذي هو عبارة عن تربيت حنون على رأسي مكافأة لي على بقائي هادئاً أثناء أداء صلاة المغرب .. بعكس زملاء الفريق الذين كان حظهم الطرد من المسجد وفي أقل الأحوال التوبيخ العنيف .. لأنه يروق لهم المزاح في المسجد بالذات .. ويختارون لهذا وقتاً مميزاً هو وقت تلاوة الآيات .. الآيات التي كانت تتلى بصوت خلف الدوسري .. الرجل الخجول المؤدب .. كانت تربطني به علاقة جميلة في الحلقة منذ أن كان عمري تقريباً 5 سنوات .. فقد كنت أحب التسابق مع حارس المسجد البنقالي والإمام في إغلاق المكيفات بعد صلاة العشاء ..! هذا الإمام قضى في حادث سير في الحوطة مع أغلب عائلته منذ 3 سنوات .. ونتج بعد وفاته بيوم واحد صراع كبير وعنيف حول .. حول من يقوم بإمامة المسجد من بعده .. ! كانوا يختصمون أمام ابنه الوحيد ناصر ذو الستة عشر عاماً .. تدخلت القبائل في هذه المسألة .. والجيران .. والغُرب .. والسبب المنطقي الذي أراه كان الطمع بالمنزل الأنيق الملاصق للمسجد .. ! كنت أتأمل زعيقهم في روضة المسجد بعد كل الصلاة .. وأخرج منه متعجباً .. هل كل ذلك لأجل التباحث في من يحق له إمامة المسجد ؟ إن كان الأمر هكذا ، فالأولى به هو الحارس البنقالي الذي لا يزال ينشج على عتبة المسجد !
غرابة الدنيا وتناقضها وصفعاتها مزعج .. هذا ما فكرت به وأنا ما زلت أتجول بالحي .. فكرت بهذا وأحجمت عن التفكير به بنفس الوقت .. لأن التفكير حالة مزعجة هي الأخرى .. هذا الحي القديم ينتهي بمرتفع كبير .. ومعظم البيوت تبدأ تتناثر من قمة المرتفع ، وتنتهي في الشارع العام بالأسفل .. هذا الحي كان مكاناً لمقابلة الأصحاب وإقامة المناسبات الرياضية ، كما أنه ممر يقود لمدرستي - متوسطة حطين . بدأت التفكير بالمستقبل وأنا في أول متوسط .. ! أحمل حقيبتي ، واخرج باكراً جداً ، وأقطع هذا الحي الصغير ، وكنت أتعمد الصعود لقمة المرتفع .. بماذا كان التفكير على وجه التحديد ؟ أعتقد أنه كانت أماني وصناعة سيناريوهات متخيلة للمستقبل المهني القريب الجميل .. كانت مهنة الطيران هو أكبر هاجس بالنسبة لي وقتها .. ربما لأنها مهنة أخي الأكبر ؛ مهنة جذابة ، من يرفض أن يجوب معظم بقاع العالم في أسبوع ؟ المهنة الحلم الأخرى كانت الهندسة ، وهذا طريف لأني لم أكن أدري ماذا يصنع المهندس .. كل ما أعرفه هو أنهم سيدعونه مهندس .. ربما الصفير الأخير الناتج من حرف " س " هو السبب .. المهنة الحلم الأخيرة هي أن أصبح ضابط ! ياليييل .. وليه ضابط ؟ لا أدري .. حرف " الطاء " لا علاقة له بالموضوع هذه المرة ، لكن ربما كانت الوجاهة الساحرة وقتها هي السبب . كان يشاع بأنك ستستطيع أن تنهي معاملاتك الحكومية إذا أتيت بالرداء الرسمي الذي تومض على أكتافه " نجمتان "، وانك ستقدم بالمجالس ، فتتموضع أسفل الصورة الكبيرة لشجرة القبيلة .. ولا أدري إن كان لا يزال أحد يعتقد هذه الفكرة إلى الآن . ما أؤمن به أنا حالياً أن الركض وراء الوجاهة الاجتماعية والبرستيج والخوف على الصورة العامة للشخص والعائلة والقبيلة والبلد من الخدش ، مبدأ لايستحق أن أعرق لأجله .
كانت هذه الأمنيات الوظيفية تقوم بشحني نفسياً ، وتحفزني على التفوق الدراسي في مرحلتي المتوسطة .. كما أنها كانت تساعدني في تلك الصباحات على الصعود لقمة المرتفع على الرغم من حقيبتي الثقيلة .. كنت أصل للقمة .. ثم ألتفت لأتأمل البيوت الطينية المتهالكة والمنثورة بلا نظام .. أراقب الطلبة المتثاقلين الذين توارت نصف وجوههم بأشمغتهم لإخفاء حالة الكسل والقرف من الاستيقاظ الصباحي واليوم الدراسي .. وأشاهد الفتيات الصغيرات الذين يقطعن الحي بخطى وئيدة ، يقودهن أخ أصغر منهن جميعاً ويحمل حقيبة كبيرة تقرب من حجمه هو .. أحيانا أزور بقالة السوداني عثمان ,, وأطلب عصر ربيع .. وأجلس على أحد الصناديق الصفراء أمام الباب .. وأقضي الربع ساعة الأخيرة في إكمال رواية من روايات أحمد خالد توفيق ..
وبعد أن يحين الوقت .. أقف .. وألقي نظرة جديدة على المنحدر .. ثم انطلق جرياً للأسفل بمعاونة من الجاذبية ، ومن ثقل الحقيبة على ظهري .. كنت أجرب إغلاق عيني أثناء الركض .. ثم أفتحهما بالثانية التي تليها خوفاً من ارتطام أليم .. التناغم اللذيذ بيني وبين الجاذبية ممتع ..
بالأمس حاولت تجربة الصعود ، كنت متثاقلاً جداً .. تحاملت على نفسي وصعدت .. وصلت أخيراً وأنا ألهث بشدة .. والتفت بعدها لأرى ما لا يستحق .. فعلاً لم يكن هناك أي شيء .. حتى المنحدر لم يكن واضح " الانحدار " .. فقد شوّهَ بعد أكثر من خمس عشرة سنة بمنازل متباينة الطول والأحجام .. هناك أشخاص لا أعرفهم يحملقون فيّ بنظرات مستنكرة لشخصي الغريب عن الحي . لم أعد أرى أي طلبة .. لا كسالى ولا مبتهجين ولا غيرهم .. ولا أثر لفتيات صغيرات ولا لأخ أصغر منهن . البقالة موجودة .. والصناديق الصفر مصفوفة .. لكن عثمان غائب .

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More