الاثنين، 21 نوفمبر 2011

شظايا قبلة





كانت نداءً غير مسموع ، كل ما أمامي بعظمته وفتنته نداء؛ نداء ذو أثر سحري لم أعهده. ذكرني بنداء النداهة؛ الأسطورة المصرية التي تصوّر فتاة فاتنة تملك صوتاً يجتذب إليه كل شباب الحي، فيتبعونها دونما إرادة. لم أكن بحاجة إلى إرادتي، فقد أسلمتها ذاتي كلها، تفعل بها ما تشاء، ومشيئتها هي أن أقترب. التسليم التام هو عادة دلالة على الكسل والتواكل، لكنه في تلك الأثناء من أكثر المشاعر حتمية وحميمية.
نصحت الأجفان عملياً بأن حاسة البصر يجب أن تعطل؛ لأن اللحظة يجب أن تعاش في الظلام؛ ففي الظلام تتعاظم كفاءة الحواس الأهم في هذه اللحظات: اللمس، الشم، السمع. واستوعبت الشفتان، فسجنت كل حرف قد يطل برأسه في اللحظة القادمة.
تجاوزنا مرحلة الاقتراب، وكفي اليمنى أعلنت امتنانها بمجرد أن استراحت على عنقٍ لين دافئ، لا يبدو أنها تنوي الرحيل قبل انقضاء فترة لا تعلم مداها إلا الكف. لم أعلم أن الحواس تغبط بعضها إلا بعد أن تبرم أنفي واحتج، ثم تمرد، ومارس حقه في أن يستند بخشوع أمام أرنبة أنفها.
كان أنفي وافر الحظ؛ فعندما تمادى خدي الأيمن، وارتمى منهكاً على خدها، كان هو يحلق بجذل، ماراً على خدها ، إلى أن اقترب من نهاية وجهها. كان أثر الرحلة عليه جلياً عندما انتظم سير الهواء الداخل إليه والذي كان معتقاً بما جنته نزهته، والهواء الخارج منه والذي يصف حالته الناضحة بالرفاهية. كانت النسمات تتماهى مع تلك التي تطرق أذني اليمنى ناسجة سيمفونية عبيرية لا تضاهى.
تسللت بحذر كفي اليسرى، ودلفت إلى عالم من حرير لم تطأها مسام الكف من قبل. فأصيبت بصدمة مواجهة الجديد، وتملكتها غرابة البيئة وفتنتها، فتجوّلت فيها متساءلة ومنبهرة من رقصاتها الجريئة، فتركتها تتخلل أصابع الكف وتستنشقها، ثم استأذنتها برقصة بطيئة متناغمة مع رقصة تلك الخصلات !
قطع اللحظة تهافت الخد الأيمن باكياً ! ثم أتبعه هتاف الأنف الحزين، عندما ترجلت الشفتان المبتلتان، وقررتا بحزمٍ أنهما سيدتا هذا الموقف وغايته، لكنهما ما إن دنيا من شفتيها، حتى أصيبتا برجفة حماسة أحدثها الفك السفلي، وتوتر اللقاء الأول، فوقفتا حائرتين مطرقتين بخجل، لم يصدر عنهما أية بادرة. ثم تملكتهما شهوة مفاجأة، فاقتربتا بوجلِ وتردد وخضوع !
تجمدت الشفتان في مكانهما بذهول، واستيقظت كفي اليمنى من غفوتها مفجوعة، وتنبهت كفي اليسرى إلى أن شريكتها في الرقص قد تراجعت بنعومة وتركتها تراقص الفراغ، واشتكى أنفي وهو ينشج من بقايا رائحة أوشكت على الأفول. أما أذني فقد ازدادت حساسيتها لتحاول يائسة التقاط النغمة الأخيرة المفقودة. هنا فقط، حُررت عيناي، وانطلقتا، لتلتقطا بقايا طيف يتلاشى، ثم ارتدتا لتتأملا ما أحدثته شظايا القبلة.
  

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More