الخميس، 22 ديسمبر 2011

مشروع سفر










لا أدري كم من الوقت واقفةً هنا !
حقًا لا أدري ..
لم أسمع بالمكان الذي سأذهب إليه .. ولم يستشرني أحد !
لو فعلوا لاخترت غيره ..
دسَّوا تذكرة السفر بين أصابعي ، ومُنّيت بسفرة ممتعة ! تراصَّت حروف وأرقام على هذه التذكرة تبشّرني بأن مقعدي يحتل الدرجة الأولى .. لمَ استحق هذه الدرجة ؟ قيل أن الطعام فيها ساخن شهي ، وأن القهوة ستطوف علي بين حينٍ وآخر . من قال لهم أني جائعة ؟ من تنبأ جزافًا بحبي للقهوة ؟ ربما لا أحب الدرجة الأولى .. ربما أكره هذا القطار وتلك الوجهة !
ماذا ينتظرني هناك ؟ زحام ؟ زنق ؟ شتائم ، وشعر يقطر عرقاً ؟ كل ذلك متوقّع ؛ فهو مكان غريب لم أقرأه يوماً ، لم أمشي على أرضه ، ولم آلفه . والمكان يراني غريبة ، لم يقرأني ، لم يحتضنني يومًا ، ولم يألفني . ستحدق بي الأرض ببرود ، سترمقني السماء بجمود . سيستقبلني البشر والحيوانات بترحاب ، ثم سيتحاشوني عندما يكتشفوا فيَّ مالم يتوقعوه . لن أضحك هناك ، سألزم غرفتي متظاهرة بإنجاز شيء ما. حذّرتهم من مغبة إرسالي هناك على متن هذا القطار بعينه . لم يفهموا ولن يفعلوا .
عرضوا علي صورًا للمكان فاتنة ، لكنها مصمتة .. تأملتها ، وأدركت مقدار التلاعب بتلك الصور لجعلها تبدو أكثر جمالًا .. هذا ليس كافيًا ! جمال الطبيعة وحده لا يأخذ بلبي .. رغد العيش لا يشبعني .. كل تلك الشكليات لا تكفي مثلي لأن يطيب لها المقام .كنت أسرف بالشرح ، وكانوا يسرفون بالتجاهل ! . يتجاهلوني لأنهم لا يريدون أن ينهروني كما فعلوا سابقًا ؛ فهذه لحظة حاسمة تحتاج مني لأن أكون هادئة ، فإنِ انهارت أعصابي فهذا يعني فشل مشروع السفر . كم أتمنى لو يصرخوا بي لأجل أن تتفجر تلك الدمعة الناضحة بصدري ..
أفزعني صراخ القطار الصلف ، فانتزعني من كرسيي لأقف بآليّة . إنه الرحيل إذن ! كم أكره هذا القطار القديم الذي تعاهدته الأتربة ! كم أخت لي وصديقة ركبته . منهن من عادت من الرحلة محطّمة وتلعن التجربة مرارًا ، ومنهن من بقيت هناك ، فانكسر الشباب في عينيها ، وجفت منها منابع البسمة ، وأصيبت بداء العجز عن الافصاح ؛ فاكتفت بترديد عبارات الشكر على كل حال  .كم هو طويل هذا القطار ، ومثير للتوتر . لم وجوه الركاب مملة هكذا ..؟ لم ينظرون للأمام دائمًا ولا شيء سوا رؤوس الركاب !؟ بعضهم يبدل ناظريه بتثاقل ليلحظني بنظرة ترسلُ الكآبة . ماذا تريد مني ؟ أن ألحق بالقطار ؟ إنه لا ينتظرني يا أبله ! سيرحل في وقته المحدد . أنا أملك نفسي الآن ، وأنا من يقرر الرحيل !
هل حقًا أنا من يقرر ؟ لم إذن تأنقتُ بأجمل ما اشتريت ؟ لم جلست على هذا الكرسي ، حاملة تذكرة الدرجة الاولى ؟ لم وقفت لنفير القطار ؟ .. فهمت الآن ؛ أنا مُجبرة على السفر ، هذه الملابس النفيسة الناعمة هي سلاسل باردة توثق ساقي برقبتي الذابلة .. هذه التذكرة قيد محكم ..  انظر كيف جمعت كفَّاي على ركبتي ، وجعلت الإبهامين في مواجهة بعضهما !
لا أكره السفر ولا القطارات . أنا فقط أحب اختيار قطاراتي وأماكني بنفسي . كم أحببت ذلك المكان البسيط المفعم بروائح لم أملها ، سنوات وقلبي يحلّق فيه فرحًا ، وروحي تتواثب فخرًا ، إلى أن افتُتح هذا المشروع فأربك تسلسل السعادة لدي وأفسدها ! كم أتمنى أن أُحمَلَ إليه الآن ولو بعد فوات الأوان .. لا أريد درجة أولى ولا طعام أثناء السفر .. لا أريد أن أصل بسرعة . راضية .. راضية بمشاق الرحلة .. أتعلمون ؟؟ لا أريد قطارًا حتى .. فقط اسمحوا لي بتمزيق الورقة ، ورميها أمام ناظر موظف القطار الذي يتململ وهو يربّت على كرشه .. أريد أن أزيح المعطف الثقيل عن كتفي ، وأدعه يستلقي بغروره بجانب التذكرة الممزقة .. اسمحوا لي بالركض إليه عكس اتجاه القطار .. أراهن أني سأنال مرادي الذي أحب قبل أن يتحرك بمسافريه.