كان الانفصال مباغتاً ؛ ليس من السهل أن أعيش وإياكِ حياة طويلة حافلة ؛ ملئت بشقاوة الأطفال ؛ كنا نتعمد إغاظة بعضنا ونسعى لها ، نعتقد أن السعادة بيننا لن تدوم ما لم نطعم أيامنا بشيء منها ، كنا نتضايق من كثافتها ، وفي أحيانٍ أخرى نتعاهد على التقليل منها ، لكن كالعادة نعود ، ونمارس هذا الصخب ، ونستمتع به ، ثم نكرهه ، ونبرأ منه .. ثم نعود إليه بشغف أكبر !
أُجبرتُ على التوقف ! رُسمَ في طريقي خطٌ أعلن نهاية حياتي ، كانت مفاجأة غير متوقعة . تسأليني إن شعرتُ حينها بالخوف فأقول لا أدري ! هل لحقني شيء من الألم ؟ أظن أن رهبة التحول من حياة لأخرى قد ألجمت الإحساس لدي .
كان موقفاً غير مفهوم ؛ شعور غريب ؛ أشبهُ بجلوسك كضيفٍ عند أحدهم ، تقضينَ وإياه ساعاتٍ من الحديث العفوي ، يُدعى بالطعام ، تستغرقين فيه للحظات ، ثم عند نقطة -يختارها هو- يَرفعُ الأطباق من أمامك ، وينتزع كأس الماء من بين اناملك .. ! هكذا بلا سبب ! ماذا ستكون ردة فعلك ؟ غالباً لا شيء ، إن هي إلا نظرة تساؤل كبيرة مفرغة من أي إجابة محتملة .
لقد حُملَ الطعام من أمامي ، لستُ غاضباً لأجل هذا ، ولا جائعاً .. لكني مصدوم .. !
خوفٌ كبير من مجهول يبشرني بحياة صامتة ، فمنذ أُدخلتُ هذا المكان ، لم أسمع همسة . الهدوء يغيظني ، أظن حياتي معك قد جنت علي ؛ لأنها عودَتني على تداخل الأصوات ، واختلاط الدموع بالضحكات ، كنت استمتع بنشاز صراخنا الطويل ، وانفعالاتنا المباغتة ، لأني كنت أعلم أنه لدينا حل آخر ؛ وهو الابتعاد قليلاً ، كي نحظى بصمت مريح . أما الآن – هنا – فالصمت هو الخيار الأول والأخير ؛ هو المصير .
المساحةُ ضيقة ، بالكاد تسعني ؛ الحركة الوحيدة المتاحة هي الاستلقاء على ظهري ، ممدود القدمين ، لا مجال لثنيهما ! وهذا يعني أن لا فسحة لكِ أبداً ؛ أشك حتى في احتمالية إيجاد فرجةٍ لروحك حتى ، فعلاً المكان صُممَ كي يحتوي جسداً واحداً .. لا شريك له ..
أتذكر الآن النقاش حول ضرورة مشاركة الأفراح ، وأهمية التعاضد حال الأحزان ، ولازلت أذكر نقطة الاعتراض على هذا المبدأ ؛ وأن الواجب أن يعذرَ بعضنا بعضاً إن نسينا تهنئة ، أو فوتنا تعزية . كل هذا الأصوات تتردد في ذاكرتي المظلمة كظلمة المكان .
أنا مستقل تماماً ..
فكرة نظرنا له مراراً ، وجمعنا فوائدها ، وقتلناها بحثاً ، أن يعيش كلٌ حياته كما هي ؛ يمارس حقوقه ، يملك ذاته كاملة ، حتى ينجح أولاً ككائن مستقل ، لينجح بعدها كشريكِ عمر ..
الفرق أن الاستقلالية هنا لم تعد – كما في السابق- وسيلة ، بل أصبحت مآلاً وحيداً .
" أعطني حريتي .. أطلق يديا " ، أُنشدنا هذا البيت سويا ، لنستدل على حقنا في المغامرة ؛ أن نرتكب الخطيئة ، ونتعرف على قُبحها ، نسير في طريقها ونسير ، نتعذب بحوبتها ، ونصطدم بطريقها المسدود ، فنعود أدراجنا ، لنلتقي في منتصف الطريق .
" أعطني حريتي .. أطلق يديا " ، لا حرية هنا ، ويدي لها الحق في أن ترتفع لمسافة لا تزيد على 10 سنتمترات فقط ، دعك من حقي المسلوب في التقلب في مكاني كما كنت أفعل في فراشي من قبل .. !
أود أن أخبرك بعلمي بزياراتك المتكررة ، وأسمع وقعَ قدميك الصغيرتين عند مستوى رأسي ، خطواتكِ مرتبكةٌ متعثرة . بل تعرفت أذني نشيجك الخافت . كنتُ – لجهلي- أطمح بوصول قطرات دموعك إلي عبر المترين الفاصلة .. ! جربتُ الصراخ باسمك كثيراً ، كررت الصنيعَ حتى بُح صوتي ، فتحولت نداءاتي لأنين شوهَ حروف اسمك .. ! يبدو أن المكان يحمل خاصية تميزهُ ؛ فهو يخدم/يغيظ الداخل أكثر من الخارج ؛ يتكفل بإيصال الأصوات إليه ، ويمنع خروجها منه !
أتعلمين ؟ لا فرق بين حياتنا قديماً والآن ، هو مجرد قرار اتخذه القدر بالنيابة عنا ؛ كنا نناقش الاستقلالية والمشاركة والحرية ، يدس الآخرون أنوفهم ، نُقدمُ على خطوة ، فنبكي منها طويلاً/قليلاً ، ثم نحجم عن أخرى فنتحسر طويلاً/قليلاً . دائماً ما نلعب بالمنتصف ، نمارس حياة معلقة يتفرع منها أكثر من طريق . لا نجرؤ على اتخاذ قرار ، بل نقضي الأيام بالحديث تلو الحديث ، نُثبتُ خطة ، ونلغي أخرى ، رسمنا أشكالاً عدة لمستقبلنا ، حتى صارت حياتنا مثل دفتر " كشكول " ! ها قد أنقذنا أحدهم ، فأراحنا من عناء اتخاذ القرار ، وتصرفَ بحزم ، تصرفَ كمسئول ، وبقينا كما نحن – كالعادة – نمارس البكاء والتحسر .